أول من لحق بخالتي “بنان الطنطاوي” من أهل بيتها

أظن أن أكثر القراء علموا بقصة خالتي التي قُتلت غدراً في مثل هذا اليوم قبل ثلاث وثلاثين سنة 17 آذار- 1981، في يوم لا أنساه.
وقصصت عليكم نبأ وفاتها في حديث مطول “خالتي التي بدلت حياتي”، واليوم أنا معكم في حديث آخر يتوافق معه بالحرقة والألم:
قبل وفاة خالتي بنان بثلاثة أشهر رزقهم الله أول حفيدة من بنتها فطارت بها سروراً، وكانت تحب الأطفال كثيراً، وأصبحت الوليدة مصدر بهجة للعائلة الصغيرة المغتربة في ألمانيا، مثلها كمثل عبد الله بن الزبير الذي كان أول مولود بالمدينة. وألقت خالتي على هذه البنية “هدى” محبة منها وصنعتها على عينها باهتمامها وعنايتها وحنوها وعاطفتها الجميلة. وتعلقت بها تعلقاً كبيراً.
وطار الخبر السعيد على صعوبة الاتصالات في تلك الأيام، وفرحنا في دمشق لفرحهم، وكيف لا نفرح و”هدى” أول حفيدة لجدي “علي الطنطاوي” ولجدتي “عائدة الخطيب” من طبقة الأحفاد، ومما زاد في سرورنا أن أم جدتي على قيد الحياة فأصبح في عائلتنا خمسة أجيال متتابعة كلهم حي يرزق وبصحة جيدة!
الفكرة أثارت جدي “علي الطنطاوي” وأسعدته حتى قال: “كلها أيام وتكبر هدى وتنادي حماتي (أي جَدّة والدتي): يا جدتي جدتك تريدك لأمر فتعالي يا جدتي وكلمي جدتك”!
وخشينا أن يصيب جدتنا الكبيرة أي مكروه –قبل أن تكبر هدى- وقد بلغت الثانية والتسعين، وصرنا ندعو لها بالصحة والبركة، ومرت ثلاثة شهور تقريباً، وإذا بالمفاجأة الكبرى التي ما كانت تخطر في بال أحد: اغتيال خالتي… في حين عاشت جدتنا الكبيرة ست سنوات بعدها حتى بلغت السابعة والتسعين وبقيت بصحة جيدة وعقل نشيط.
وكبرت الحفيدة هدى وأظهرت تفوقاً في مجالات مختلفة، أبرزها تفوقها في الثانوية العامة حتى غلبت الألمان في ديارهم، وأتقنت لغتهم وفاقتهم في التحصيل العلمي، ودخلت جامعة متميزة بهامبروغ من أرقى جامعات العالم لتدرس القانون.
زارتنا هدى في ديارنا عدة مرات وزرتُها في ألمانيا، فأحببتها وأحبتني، وربطت بيننا علاقة جميلة هي أشبه بعلاقة الخالة ببنت أختها، فكلمتني عن حياتها وطموحها وأخذتْ مني بعض المشورة، وعرفتُ منها طبيعة الحياة في الغرب وسمعت هي مني ذكريات قديمة جميلة –لم تشهدها- عن عائلتنا الطنطاوية.
اتصل الود بيني وبينها مدة جيدة ثم شغلها التحصيل الجامعي، وكانت عظيمة الطموح وينتظرها المستقبل الواعد -فيما يبدو- والحياة الغنية الناجحة، وفي يوم مهم من أيام الجامعة افتقدتها رفيقاتها، وهي التي لا تتخلف عن مسؤولية هامة، اتصلن بها فلم ترد وجئن لشقتها ولم تفتح الباب… أسلمت الروح وأصبحت “هدى” أول أهل بيت خالتي لحاقاً بها.
توفيت خالتي وهي في الثامنة والثلاثين، ولحقت بها حفيدتها وهي في السابعة والعشرين، أحبتها فأسرعت إليها، وسبحان الله كيف يقدر الأقدار، ويجمع الناس في الآخرة إذا فرقتهم الدنيا.
ومن عجائب القرن أن وصل خبر الوفاة إلى جدة قبل أن ينتشر بألمانيا؛ واتصلت والدتي بهم للمواساة والتعزيه فرأت صوت ابن أختها طبيعياً وعادياً فآثرت ألا تخبره، وإذا به يتصل بخالتي الأخرى، ويسألها: “لماذا اتصلت بنا خالتي بيان؟ هل حدث لديكم مكروه في جدة وأرادت أن تخبرني به بالتدريج لكيلا أقلق”! فلم تدري خالتي ماذا تقول له هي الأخرى، وأخفت الموضوع عنه، وأقفلت الخط، ولم تكن إلا دقائق حتى وصله الخبر…
رحلت حفيدة خالتي من سنوات 2007، فأثار رحيلها شجوني، وتتابع الرحيل، إنهم يرحلون واحداً وراء الآخر ويتركون لنا صوراً وذكريات وحنيناً كبيراً لأيام مباركة لمت شملنا وجمعت شتاتنا وأدفأت قلوبنا وسكنت أنفسنا… أيام جميلة حملتني رصيدا كبيرا وزادا ضخما ما زال ينير لي حياتي ويهبني الوقود والهمة لأتابع الصمود والمسير حتى يوقفني عنه اللحاق بهم يوما

أضف تعليق